كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَقوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} يَتَنَاوَلُ كُلَّ كَافِرٍ. فَهُوَ لَا يَعْبُدُ مَا يَعْبُدُهُ أحد مِنْ الْكُفَّارِ وَلَا مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَلَا غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَالْكُفَّارِ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا الْيَهُودَ وَلَا النَّصَارَى وَلَا غَيْرَهُمْ مِنْ أَصْنَافِ الْكُفَّارِ. وَذَلِكَ أَنَّهُ قال: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}. فَذَكَرَ لَفْظَ (ما) وَلَمْ يَقُلْ (مَنْ تَعْبُدُونَ). و(ما) تَدُلُّ عَلَى الصِّفَةِ كَمَا تَقَدَّمَ وَمَا ذَكَرَهُ المهدوي وَغَيْرُهُ مِنْ أَنَّهُ قال: {مَا أَعْبُدُ} وَلَمْ يَقُلْ (مَنْ أَعْبُدُ) يُقَابِلُ بِهِ {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْأَصْنَامُ فَضَعِيفٌ جِدًّا يُغَيِّرُ اللُّغَةَ وَيَخُصُّ عُمُومَ القرآن وَهُوَ عُمُومٌ مَقْصُودٌ وَيُزِيلُ الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ تَعلقتْ هَذِهِ الْبَرَاءَةُ. فَإِنَّ (ما) فِي اللُّغَةِ إمَّا لِمَا لَا يعلم، ولِصِفَاتِ مَا يعلم كَمَا فِي قوله: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ}، {وَمَا سواها}، {وَمَا خلق الذَّكَرَ والأنثى} وَفِي التَّسْبِيحِ الْمَأْثُورِ أَنَّهُ يُقال عِنْدَ سَمَاعِ الرَّعْدِ: (سُبْحَانَ مَا سَبَّحَتْ لَهُ) وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ. فَقوله: {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} جَارٍ عَلَى أَصْلِ اللُّغَةِ. وَأَيْضًا فَقوله: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} خِطَابٌ لِلْكُفَّارِ مُطْلَقًا فَهُوَ لَا يَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ مَا عَبَدَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ فَعَبَّرَ عَنْ ذَوَاتِهِمْ بـ: (من) فَتَخْصِيصُ الْبَرَاءَةِ مِنْ الشِّرْكِ بِشِرْكِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ غَلَطٌ عَظِيمٌ وَإِنَّمَا هِيَ بَرَاءَةٌ مِنْ كُلِّ شِرْكٍ. وَكَوْنُ الرَّبِّ يَتَّصِفُ بِمَا تتصِفُ بِهِ الْأَصْنَامُ مِنْ عَدَمِ الْعِلْمِ مَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ وَلَا تَصِحُّ الْمُقَابَلَةُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ. بَلْ الْمَقْصُودُ ذِكْرُ الصِّفَاتِ وَالْإِخْبَارُ بِمَعْبُودِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ لِيَتَبَرَّأَ مِنْ مَعْبُودِهِمْ وَيُبَرِّئَهُمْ مِنْ مَعْبُودِهِ. وَإِذَا قال الْيَهُودُ: نَحْنُ نَقْصِدُ عِبَادَةَ اللَّهِ. كَانُوا كَاذِبِينَ سَوَاءٌ عَرَفُوا أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ أَوْ لَمْ يَعْرِفُوا كَمَا يَقول النَّصَارَى: إنَّا نَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ وَمَا نَحْنُ بِمُشْرِكِينَ وَهُمْ كَاذِبُونَ. لِأَنَّهُمْ لَوْ أَرَادُوا عِبَادَتَهُ لَعَبَدُوهُ بِمَا أمر بِهِ وَهُوَ الشَّرْعُ لَا بِالْمَنْسُوخِ الْمُبَدَّلِ. وَأَيْضًا فَالرَّبُّ الَّذِي يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَقْصِدُونَ عِبَادَتَهُ هُوَ عِنْدَهُمْ رَبٌّ لَمْ يُنْزِلْ الْإِنْجِيلَ وَلَا القرآن وَلَا أَرْسَلَ الْمَسِيحَ وَلَا مُحَمَّدًا. بَلْ هُوَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ فَقِيرٌ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ بَخِيلٌ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ عَاجِزٌ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ لَا يَقْدِرُ أَنْ يُغَيِّرَ مَا شَرَعَهُ.
وعند جَمِيعِهِمْ أَنَّهُ أَيَّدَ الْكَاذِبِينَ الْمُفْتَرِينَ عَلَيْهِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ رُسُلُهُ وَلَيْسُوا رُسُلَهُ بَلْ هُمْ كَاذِبُونَ سَحَرَةٌ. قَدْ أَيَّدَهُمْ وَنَصَرَهُمْ: وَنَصَرَ أَتْبَاعَهُمْ عَلَى أَوْلِيَائِهِ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمْ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ أَوْلِيَاؤُهُ دُونَ النَّاسِ. فَالرَّبُّ الَّذِي يَعْبُدُونَهُ هُوَ دَائِمًا يَنْصُرُ أَعْدَاءَهُ. فَهُمْ يَعْبُدُونَ هَذَا الرَّبَّ وَالرَّسُولَ وَالْمُؤْمِنُونَ لَا يَعْبُدُونَ هَذَا الْمَعْبُودَ الَّذِي تَعْبُدُهُ الْيَهُودُ. فَهُوَ مُنَزَّهٌ عَمَّا وَصَفَتْ بِهِ الْيَهُودُ مَعْبُودَهَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مَعْبُودًا لَهُمْ مُنَزَّهٌ عَنْ هَذِهِ الْإِضَافَةِ. فَلَيْسَ هُوَ مَعْبُودًا لِلْيَهُودِ وَإِنَّمَا فِي جِبِلَّاتِهِمْ صِفَاتٌ لَيْسَتْ هِيَ صِفَاتُهُ زَيَّنَهَا لَهُمْ الشَّيْطَانُ. فَهُمْ يَقْصِدُونَ عِبَادَةَ الْمُتَّصِفِ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ وَإِنَّمَا هُوَ الشَّيْطَانُ. فَالرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ لَا يَعْبُدُونَ شَيْئًا تَعْبُدُهُ الْيَهُودُ وَإِنْ كَانُوا يَعْبُدُونَ مَنْ يَعْبُدُونَهُ. وَهَذَا مِمَّا يَظْهَرُ بِهِ فَائِدَةُ مَا ذَكَرْنَا. وَعَلَى هَذَا فَقوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْكُفَّارِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ خَطَأُ مَنْ قال إنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُشْرِكِينَ وَالنَّصَارَى دُونَ الْيَهُودِ كَمَا فِي قول ابْنِ زَيْدٍ: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} قال لِلْمُشْرِكِينَ وَالنَّصَارَى وَالْيَهُودِ لَا يَعْبُدُونَ إلَّا اللَّهَ وَلَا يُشْرِكُونَ إلَّا أَنَّهُمْ يَكْفُرُونَ بِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ بِمَا جَاءُوا بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَكْفُرُونَ بِرسول اللّه صلى الله عليه وسلم وَبِمَا جَاءَ بِهِ وَقَتَلُوا طَوَائِفَ الْأَنْبِيَاءِ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا.
قال: إلَّا الْعِصَابَةَ الَّتِي تَقول حَيْثُ خَرَجَ بُخْتُ نَصَّرَ وَقِيلَ: مَنْ سَمَّوْا عُزَيْرًا (ابْنُ اللَّهِ) وَلَمْ يَعْبُدُوهُ. وَلَمْ يَفْعَلُوا كَمَا فَعَلَتْ النَّصَارَى قالتْ: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وَعَبَدَتْهُ. فَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ الْيَهُودَ لَا تُشْرِكُ كَمَا أَشْرَكَتْ الْعَرَبُ وَالنَّصَارَى صَحِيحٌ لَكِنَّهُمْ مَعَ هَذَا لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ. بَلْ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَعْبُدُونَ الشَّيْطَانَ لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ. وَمَنْ قال إنَّ الْيَهُودَ تَعْبُدُ اللَّهَ فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا قَبِيحًا. فَكُلُّ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ كَانَ سَعِيدًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَكَانَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ.
قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ: «إنَّك تَأْتِي قَوْمًا هُمْ أَهْلُ كِتَابٍ فَأَوَّلُ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رسول اللّه» وَفِي رِوَايَةٍ: «فَادْعُهُمْ إلَى عِبَادَةِ اللَّهِ فَإِذَا عَرَفُوا اللَّهَ فَأَعْلِمْهُمْ...» الْحَدِيثِ فَلَا يُعْبَدُ إلَّا اللَّهُ بَعْدَ أَنْ أَرْسَلَ مُحَمَّدًا وَعُرِفَتْ رِسَالَتُهُ وَبُلِّغَتْ. وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ أَعْمَالَهُمْ حَابِطَةٌ. وَلَوْ عَبَدُوا اللَّهَ لَمْ تَحْبَطْ أَعْمَالُهُمْ. فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ أحدا. وَقَبْلَ إرْسَالِ مُحَمَّدٍ إنَّمَا كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مَنْ عَبَدَهُ بِمَا أمر بِهِ. فَأَمَّا مَنْ تَرَكَ عِبَادَتَهُ بِمَا أمر بِهِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَهُوَ لَا يَعْبُدُ اللَّهَ إنَّمَا يَعْبُدُ الشَّيْطَانَ وَيَعْبُدُ الطَّاغُوتَ. وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ الْيَهُودِ بِأَنَّهُمْ عَبَدُوا الطَّاغُوتَ وَأَنَّهُ لَعَنَهُمْ وَغَضِبَ عَلَيْهِمْ وَجَعَلَ مِنْهُمْ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ. وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ يَدْخُلُ فِيهِ الشَّيْطَانُ وَالْوَثَنُ وَالْكُهَّانُ وَالدِّرْهَمُ وَالدِّينَارُ وَغَيْرُ ذَلِكَ.
وقال تعالى.
{أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} وَقال: {نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يعلمونَ وَاتَّبَعُوا مَا تتلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} الْآيَةَ وَهُمْ أَشَدُّ عَدَاوَةً لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ النَّصَارَى وَكُفْرُهُمْ أَغْلَظُ وَهُمْ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ. وَلِهَذَا قِيلَ: إنَّهُمْ تَحْتَ النَّصَارَى فِي النَّارِ. وَالْيَهُودُ إنْ لَمْ يَعْبُدُوا الْمَسِيحَ فَقَدْ افْتَرَوْا عَلَيْهِ وَعَلَى أُمِّهِ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ كُفْرِ النَّصَارَى. وَلِهَذَا جَعَلَ اللَّهُ النَّصَارَى فَوْقَهُمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. فَالنَّصَارَى مُشْرِكُونَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَيُشْرِكُونَ بِهِ. وَأَمَّا الْيَهُودُ فَلَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ بَلْ هُمْ مُعَطِّلُونَ لِعِبَادَتِهِ مُسْتَكْبِرُونَ عَنْهَا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ اسْتَكْبَرُوا فَفَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ. بَلْ هُمْ مُتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ عَابِدُونَ لِلشَّيْطَانِ. فَالنَّبِيُّ وَالْمُؤْمِنُونَ لَا يَعْبُدُونَ مَا تَعْبُدُهُ الْيَهُودُ. وَهُمْ وَإِنْ وَصَفُوا اللَّهَ بِبَعْضِ مَا يَسْتَحِقُّهُ فَهُمْ يَصِفُونَهُ بِمَا هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ. وَلَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ عِبَادَةٌ لَهُ وَحْدَهُ. فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا لِمَنْ عَبَدَهُ بِمَا أمرهُ بِهِ. وَالسُّورَةُ لَمْ يَقُلْ فِيهَا: (يَا أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ) حَتَّى يُقال فِيهَا إنَّهَا إنَّمَا تَنَاوَلَتْ مَنْ أَشْرَكَ. بَلْ قال: {يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} فَتَنَاوَلَتْ كُلَّ كَافِرٍ سَوَاءٌ كَانَ مِمَّنْ يُظْهِرُ الشِّرْكَ أَوْ كَانَ فِيهِ تَعْطِيلٌ لِمَا يَسْتَحِقُّهُ اللَّهُ وَاسْتِكْبَارٌ عَنْ عِبَادَتِهِ. وَالتَّعْطِيلُ شَرٌّ مِنْ الشِّرْكِ وَكُلُّ مُعَطِّلٍ فلابد أَنْ يَكُونَ مُشْرِكًا. وَالنَّصَارَى مَعَ شِرْكِهِمْ لَهُمْ عِبَادَاتٌ كَثِيرَةٌ وَالْيَهُودُ مِنْ أَقَلِّ الْأُمَمِ عِبَادَةً وَأَبْعَدِهِمْ عَنْ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ وَحْدَهُ. لَكِنْ قَدْ يَعْرِفُونَ مَا لَا تَعْرِفُهُ النَّصَارَى لَكِنْ بِلَا عِبَادَةٍ وَعَمَلٍ بِالْعِلْمِ. فَهُمْ مَغْصُوبٌ عَلَيْهِمْ وَأُولَئِكَ ضَالُّونَ. وَكِلَاهُمَا قَدْ بَرَّأَ اللَّهُ مِنْهُمْ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ. وَفِي هَذِهِ الْأُمَّةِ مَنْ يَعْرِفُ مَا لَا تَعْرِفُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى بِلَا عَمَلٍ بِالْعِلْمِ. فَفِيهِمْ شَبَهٌ كَمَا قال سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة: مَنْ فَسَدَ مِنْ عُلَمَائِنَا كَانَ فِيهِ شَبَهٌ مِنْ الْيَهُودِ وَمَنْ فَسَدَ مِنْ عِبَادِنَا كَانَ فِيهِ شَبَهٌ مِنْ النَّصَارَى. بَلْ قَدْ قال أَبُو هُرَيْرَةَ: مَا أَقْرَبَ الليلةَ مِنْ الْبَارِحَةِ أَنْتُمْ أَشْبَهُ النَّاسِ بِبَنِي إسْرَائِيلَ. بَلْ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «لَتتبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرِ وَذِرَاعًا بِذِرَاعِ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ. قالوا: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. قال: فَمَنْ؟» وَفِي رِوَايَةٍ: «فَارِسُ وَالرُّومُ؟ قال: وَمَنْ النَّاسُ إلَّا أُولَئِكَ؟». وَقال: «افْتَرَقَتْ الْيَهُودُ عَلَى إحدى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَافْتَرَقَتْ النَّصَارَى عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَسَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الْأُمَّةُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إلَّا واحدة».
وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبُيِّنَ فِيهِ حَالُ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ الَّذِينَ هُمْ عَلَى مِثْلِ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ. وَمِمَّا يُوَضِّحُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ قوله: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} مَعْنَاهُ الْمَعْبُودُ. وَلَكِنْ هُوَ لَفْظٌ مُطْلَقٌ يَتَنَاوَلُ الواحد وَالْكَثِيرَ وَالْمُذَكَّرَ وَالْمُؤَنَّثَ. فَهُوَ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَعْبُودٍ لَهُمْ. وَالْمَعْبُودُ هُوَ الْإِلَهُ فَكَأَنَّهُ قال: لَا أَعْبُدُ إلَهَكُمْ وَلَا تَعْبُدُونَ إلَهِي كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي قِصَّةِ يَعْقُوبَ.
قال تعالى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إذْ قال لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالوا نَعْبُدُ إلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إلَهًا واحدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} وَاسْمُ الْإِلَهِ وَالْمَعْبُودِ يَتَضَمَّنُ إضَافَةً إلَى الْعَابِدِ. وَقال: {إلَهَ آبَائِكَ إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} هُوَ الَّذِي يَعْبُدُهُ هَؤُلَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ وَيُؤَلِّهُونَهُ. وَإِنَّمَا يَعْبُدُهُ مَنْ كَانَ عَلَى مِلَّتِهِمْ كَمَا قال يُوسُفُ {إنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ} إلَى قوله: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يعلمونَ}. فَتَبَيَّنَ أَنَّ مِلَّةَ آبَائِهِ هِيَ عِبَادَةُ اللَّهِ. وَهِيَ مِلَّةُ إبْرَاهِيمَ. وَقَدْ قال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} إلَى قوله: {فَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لَيْسُوا عَلَى مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ وَإِذَا لَمْ يَكُونُوا عَلَى مِلَّتِهِ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَ إلَهَ إبْرَاهِيمَ. فَإِنَّ مَنْ عَبَدَ إلَهَ إبْرَاهِيمَ كَانَ عَلَى مِلَّتِهِ قال تعالى: {وَقالوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} إلَى قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} فَقوله: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ} يُبَيِّنُ أَنَّ مَا عَلَيْهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى يُنَافِي مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ. وَهَذَا بَعْدَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ مِمَّا لَا رَيْبَ فِيهِ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي بُعِثَ بِمِلَّةِ إبْرَاهِيمَ. وَالطَّائِفَتَانِ كَانَتَا خَارِجَتَيْنِ عَنْهَا بِمَا وَقَعَ مِنْهُمْ مِنْ التَّبْدِيل.
قال تعالى: {إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} وَقال: {قُلْ إنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ} الْآيَةَ.
وقال: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا}. وَقوله: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ}، يُبَيِّنُ أَنَّ كُلَّ مَنْ رَغِبَ عَنْهَا فَقَدْ سَفِهَ نَفْسَهُ. وَفِيهِ مِنْ جِهَةِ الْإِعْرَابِ وَالْمَعْنَى قولانِ. أحدهُمَا وَهُوَ قول الْفَرَّاءِ وَغَيْرِهِ مِنْ نُحَاةِ الْكُوفَةِ وَاخْتِيَارُ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَغَيْرِهِ وَهُوَ مَعْنَى قول أَكْثَرِ السَّلَفِ أَنَّ النَّفْسَ هِيَ الَّتِي سَفِهَتْ. فَإِنَّ {سَفِهَ} فِعْلٌ لَازِمٌ لَا يَتَعَدَّى لَكِنَّ الْمَعْنَى: إلَّا مَنْ كَانَ سَفِيهًا فَجَعَلَ الْفِعْلَ لَهُ وَنَصَبَ النَّفْسَ عَلَى التَّمْيِيزِ لَا النَّكِرَةِ كَقوله: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا}. وَأَمَّا الْكُوفِيُّونَ فَعَرَفُوا هَذَا وَهَذَا.
قال الْفَرَّاءُ: نَصْبُ النَّفْسِ عَلَى التَّشْبِيهِ بِالتَّفْسِيرِ كَمَا يُقال: ضِقْت بِالْأمر ذَرْعًا مَعْنَاهُ: ضَاقَ ذَرْعِي بِهِ. وَمِثْلُهُ {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} أَيْ اشْتَعَلَ الشَّيْبَ فِي الرَّأْسِ.
قال: وَمِنْهُ قوله: أَلِمَ فُلَانٌ رَأَسَهُ وَوَجِعَ بَطْنَهُ وَرَشَدَ أمرهُ. وَكَانَ الْأَصْلُ: سَفِهَتْ نَفْسُ زَيْدٍ وَرَشَدَ أمرهُ فَلَمَّا حَوَّلَ الْفِعْلَ إلَى زَيْدٍ انْتَصَبَ مَا بَعْدَهُ عَلَى التَّمْيِيزِ. فَهَذِهِ شَوَاهِدُ عَرَفَهَا الْفَرَّاءُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ. وَمِثْلُهُ قوله: غَبَنَ فُلَانٌ رَأْيَهُ وَبَطِرَ عَيْشَهُ. وَمِثْلُ هَذَا قوله: {بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} أَيْ بَطِرَتْ نَفْسُ الْمَعِيشَةِ. وَهَذَا مَعْنَى قول يَمَانِ بْنِ رَبَابٍ: حَمِقَ رَأْيُهُ وَنَفَسُهُ وَهُوَ مَعْنَى قول ابْنِ السَّائِبِ: ضَلَّ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ وَقول أَبِي رَوْقٍ: عَجَزَ رَأْيُهُ عَنْ نَفْسِهِ. وَالْبَصْرِيُّونَ لَمْ يَعْرِفُوا ذَلِكَ. فَمِنْهُمْ مَنْ قال: جَهِلَ نَفْسَهُ كَمَا قالهُ ابْنُ كيسان وَالزَّجَّاجُ.
قال: لِأَنَّ مَنْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ فَقَدْ جَهِلَ نَفْسَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يعلم خَالِقَهَا. وَهَذَا الَّذِي قالوهُ ضَعِيفٌ. فَإِنَّهُ إنْ قِيلَ إنَّ الْمَعْنَى صَحِيحٌ فَهُوَ إنَّمَا قال: {سَفِهَ} و{سَفُهَ} فِعْلٌ لَازِمٌ لَيْسَ بِمُتَعَدٍّ و(جَهِلَ) فِعْلٌ مُتَعَدٍّ. وَلَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ (سَفَّهْت كَذَا) أَلْبَتَّةَ بِمَعْنَى: جهلته. بَلْ قالوا: سَفُهَ بِالضَّمِّ سَفَاهَةً أَيْ صَارَ سَفِيهًا وَسَفِهَ بِالْكَسْرِ أَيْ حَصَلَ مِنْهُ سَفَهٌ كَمَا قالوا فِي (فَقِهَ وَفَقُهَ). وَنَقَلَ بَعْضُهُمْ: سَفِهَتْ الشُّرْبَ إذَا أَكْثَرْت مِنْهُ. وَهُوَ يُوَافِقُ مَا حَكَاهُ الْفَرَّاءُ أَيْ صَارَ شُرْبُهُ سَفِيهًا فَسَفِهَ شُرْبَهُ لَمَّا جَاوَزَ الْحَدَّ.
وقال الْأَخْفَشُ وَيُونُسُ: نُصِبَ بِإِسْقَاطِ الْخَافِضِ أَيْ سَفِهَ فِي نَفْسِهِ. وَقولهمْ (بِإِسْقَاطِ الْخَافِضِ) لَيْسَ هُوَ أَصْلًا فَيُعْتَبَرُ بِهِ وَلَكِنْ قَدْ تَنْزِعُ حُرُوفُ الْجَرِّ فِي مَوَاضِعَ مَسْمُوعَةٍ فَيَتَعَدَّى الْفِعْلُ بِنَفْسِهِ. وَإِنْ كَانَ مَقِيسًا فِي بَعْضِ الصُّوَرِ. ف (سَفِهَ) لَيْسَ مِنْ هَذَا لَا يُقال: سَفِهْت أمر اللَّهِ وَلَا دِينَ الْإِسْلَامِ بِمَعْنَى: جَهِلْته أَيْ سَفِهْت فِيهِ. وَإِنَّمَا يُوصَفُ بِالسَّفَهِ وَيُنْصَبُ عَلَى التَّمْيِيزِ مَا خُصَّ بِهِ.
مِثْلُ نَفْسِهِ أَوْ شُرْبِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ كُلَّ مَنْ رَغِبَ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ فَهُوَ سَفِيهٌ.
قال أَبُو الْعَالِيَةِ: رَغِبَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ وَابْتَدَعُوا الْيَهُودِيَّةَ والنصرانية وَلَيْسَتْ مِنْ اللَّهِ وَتَرَكُوا دِينَ إبْرَاهِيمَ. وَكَذَلِكَ قال قتادة: بَدَّلُوا دِينَ الْأَنْبِيَاءِ وَاتَّبَعُوا الْمَنْسُوخَ. فَأَمَّا مُوسَى وَالْمَسِيحُ وَمَنْ اتَّبَعَهُمَا فَهُمْ عَلَى مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ مُتَّبِعُونَ لَهُ وَهُوَ أمامهُمْ. وَهَذَا مَعْنَى قوله: {إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا}. فَهُوَ يَتَنَاوَلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ قَبْلَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ وَبَعْدَ مَبْعَثِهِ. وَقِيلَ إنَّهُ عَامٌّ قال الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: كُلُّ مُؤْمِنٍ وَلِيُّ إبْرَاهِيمَ مِمَّنْ مَضَى وَمِمَّنْ بَقِيَ.
وقال الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: هُمْ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ صَدَّقُوا نَبِيَّ اللَّهِ وَاتَّبَعُوهُ وَكَانَ مُحَمَّدٌ وَاَلَّذِينَ مَعَهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ. وَهَذَا وَغَيْرُهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَلَيْسُوا عَلَى مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ..
فإن قيل: فَالْمُشْرِكُ يَعْبُدُ اللَّهَ وَغَيْرَهُ بِدَلِيلِ قول الْخَلِيلِ {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ}. فَقَدْ اسْتَثْنَاهُ مِمَّا يَعْبُدُونَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ اللَّهَ. وَكَذَلِكَ قوله: {إنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إلَّا الَّذِي فَطَرَنِي}.
وَاسْتَثْنَاهُ أَيْضًا. وَفِي الْمَسْنَدِ وَغَيْرِهِ حَدِيثُ حُصَيْنٍ الخزاعي لَمَّا قال لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَا حُصَيْنُ: «كَمْ تَعْبُدُ الْيَوْمَ؟» قال: سَبْعَةُ آلِهَةٍ سِتَّةٌ فِي الْأَرْضِ وواحد فِي السَّمَاءِ.
قال: «فَمَنْ الَّذِي تَعُدُّ لِرَغْبَتِك وَرَهْبَتِك؟» قال: الَّذِي فِي السَّمَاءِ.
قِيلَ: هَذَا قول الْمُشْرِكِينَ كَمَا تَقول الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى: نَحْنُ نَعْبُدُ اللَّهَ. فَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ عِبَادَتَهُ مَعَ الشِّرْكِ بِهِ عِبَادَةٌ وَهُمْ كَاذِبُونَ فِي هَذَا. وَأَمَّا قول الْخَلِيلِ فَفِيهِ قولانِ.
قال طَائِفَةٌ: إنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ.
وقال عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: كَانُوا يَعْبُدُونَ اللَّهَ مَعَ آلِهَتِهِمْ. وَعَلَى هَذَا فَهَذَا لَفْظٌ مُقَيَّدٌ. فَإِنَّهُ قال: {مَا تَعْبُدُونَ}. فَسَمَّاهُ عِبَادَةً إذَا عَرَفَ الْمُرَادَ لَكِنْ لَيْسَتْ هِيَ الْعِبَادَةُ الَّتِي هِيَ عِنْدَ اللَّهِ عِبَادَةٌ. فَإِنَّهُ كَمَا قال تعالى: «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ. مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ وَهُوَ كُلُّهُ لِلَّذِي أَشْرَكَ». وَهَذَا كَقوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}. سَمَّاهُ إيمَانًا مَعَ التَّقْيِيدِ وَإِلَّا فَالْمُشْرِكُ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ لَا يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ. وَقَدْ قال: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}. فَهَذَا مَعَ التَّقْيِيدِ. وَمَعَ الْإِطْلَاقِ فَالْإِيمَانُ هُوَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَالْبِشَارَةُ بِالْخَيْرِ.
وَقوله: {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} نَفْيُ الْعِبَادَةِ مُطْلَقًا لَيْسَ هُوَ نَفْيٌ لِمَا قَدْ يُسَمَّى عِبَادَةً مَعَ التَّقْيِيدِ. وَالْمُشْرِكُ إذَا كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ وَيَعْبُدُ غَيْرَهُ فَيُقال: إنَّهُ يَعْبُدُ اللَّهَ وَغَيْرَهُ أَوْ يَعْبُدُهُ مُشْرِكًا بِهِ. لَا يُقال: إنَّهُ يَعْبُدُ مُطْلَقًا. وَالْمُعَطِّلُ الَّذِي لَا يَعْبُدُ شَيْئًا شَرٌّ مِنْهُ. وَالْعِبَادَةُ الْمُطْلَقَةُ الْمُعْتَدِلَةُ هِيَ الْمَقْبُولَةُ وَعِبَادَةُ الْمُشْرِكِ لَيْسَتْ مَقْبُولَةً. وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا قوله: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} الْآيَةَ.
قالوا فِيهَا {نَعْبُدُ إلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ} ثُمَّ قالوا: {إلَهًا واحدًا}. فَهَذَا بَدَلٌ مِنْ الْأَوَّلِ فِي أَظْهَرِ الْوَجْهَيْنِ. فَإِنَّ النَّكِرَةَ تُبْدَلُ مِنْ الْمَعْرِفَةِ كَمَا فِي قوله: {لَنَسْفَعَنْ بالناصية نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خاطئة} فَذُكِرَتْ مُعَرَّفَةً وَمَوْصُوفَةً. كَذَلِكَ قالوا {نَعْبُدُ إلَهَكَ} فَعَرَّفُوهُ ثُمَّ قالوا {إلَهًا واحدًا} فَوَصَفُوهُ. وَالْبَدَلُ فِي حُكْمِ تَكْرِيرِ الْعَامِلِ أَحْيَانًا كَمَا فِي قوله: {قال الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} فَالتَّقْدِيرُ: نَعْبُدُ إلَهَك نَعْبُدُ إلَهًا واحدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ. فَجَمَعُوا بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ بِأمريْنِ بِأَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ إلَهَهُ وَأَنَّهُمْ إنَّمَا يَعْبُدُونَ إلَهًا واحدًا. فَمَنْ عَبَدَ إلَهَيْنِ لَمْ يَكُنْ عَابِدًا لِإِلَهِهِ وَإِلَهِ آبَائِهِ. وَإِنَّمَا يَعْبُدُ إلَهَهُ مَنْ عَبَدَ إلَهًا واحدًا. وَلَوْ كَانَ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ وَعَبَدَ مَعَهُ غَيْرَهُ عَابِدًا لَهُ لَكَانَتْ عِبَادَتُهُ نَوْعَيْنِ عِبَادَةَ إشْرَاكٍ وَعِبَادَةَ إخْلَاصٍ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ قوله: {إلَهًا واحدًا} بَدَلًا. لِأَنَّ هَذَا كُلٌّ مِنْ كُلٍّ لَيْسَ هُوَ بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ. فَعَلِمَ أَنَّ إلَهَهُ وَإِلَهَ آبَائِهِ لَا يَكُونُ إلَّا إلَهًا واحدًا. والوجه الثاني: قوله: {إلَهًا واحدًا} نُصِبَ عَلَى الْحَالِ لَكِنَّهَا حَالٌ لَازِمَةٌ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا إلَهًا واحدًا كَقوله: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا} وَهُوَ لَا يَكُونُ إلَّا مُصَدِّقًا. وَمِنْهُ {مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ}. فَمَنْ عَبَدَ مَعَهُ غَيْرَهُ فَمَا عَبَدَهُ إلَهًا واحدًا وَمَنْ أَشْرَكَ بِهِ فَمَا عَبَدَهُ. وَهُوَ لَا يَكُونُ إلَّا إلَهًا واحدًا. فَإِذَا لَمْ يَعْبُدُهُ فِي الْحَالِ اللَّازِمَةِ لَهُ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَالٌ أُخْرَى يَعْبُدُهُ فِيهَا فَمَا عَبَدَهُ.